التّحريف والوحي الإلهي

المقدّمة


"إنّ الكتاب المقدّس خليط من الحقائق والأباطيل، قد صيغت عبر مراحل زمنيّة متتابعة." هكذا يلخّص المؤلّف بسّام داود عجك موقفَه تجاه مسألة التّحريف. ومن المؤسف أنّ هذه النظرة تعكس موقف العديد من المسلمين اليوم، علماء وشعبًا. وربّما تعلّقت هذه المسألة بشكل أساسيّ بموضوع الوحي الإلهي والفرق بين المفهوم المسيحي والإسلامي لهذه المسألة. ولن نتطرّق هنا إلى موضوع الوحي والإعلان في هذا المقال لأنّه مطروح في مقال آخر من هذا المجلّد. ولكنّنا سنركّز على مسألة التّحريف دون سواها، بدءًا من ورودها في بعض آيات القرآن الكريم، وذهابًا إلى كيفيّة فهم هذه الآيات لدى المفسّرين المسلمين الأوّلين والتّابعين، وصولا إلى ورودها في عدد من الكتابات الإسلاميّة الجدليّة والحواريّة خاصّة حتى القرن الرابع عشر للميلاد. ويتمثّل ما اكتشفناه –وهو ما ننوي إظهاره هنا- في أنّ عبارة "التّحريف" القرآنيّة لم تُفهَم، في معظم الأحيان، بمعنى "تحريف اللّفظ"- أي تبديل الكلمات- في فترة ما قبل القرن الحادي العشر للميلاد. بل فَهِم المسلمون العبارة بأنّها تشير إلى "تحريف المعنى"، أي التّحريف بالتّفسير أو التّأويل، وهو الإساءة في فهم نصٍّ أدبيّ معيّن. ويتبيّن من دراسة أدبيّة دقيقة للنّصوص الإسلاميّة الحواريّة والجدليّة مع المسيحيّين واليهود أنّ المفهوم الإسلامي لعبارة "التّحريف" بما هو تحريف لفظي دخل على الفكر الإسلامي تحديدًا ابتداءً من القرن الحادي عشر للميلاد، في كتابات العلاّمة الظّاهري ابن حزم الأندلسي. وجدير بالذّكر أنّ تلك الفترة تتناسب مع بداية الحروب الصليبيّة التي شنّجت العلاقات الإسلاميّة-المسيحيّة تشنيجًا لم تتخطّاه الديانتان إلى يومنا هذا. ومن هنا فإنّ هذا المقالَ يدعو القارئَ المسلم خاصّة إلى إعادة النّظر في الموقف الإسلامي المعاصر، الذي ينحصر في المفهوم الأوّل للتّحريف كـ"تحريف لفظيّ". ويسعى هذا المقال كذلك إلى تشجيع المنتمين إلى الدّيانتَيْن المسيحيّة والإسلاميّة على التّحاور في مسألة فهم الكتاب المقدّس وتفسيره بهدف إزالة العوائق وسوء الفهم بينهما، التي تؤدّي إلى التعصّب الدّيني، في حين أنّه ينبغي على الحوار الدّيني أن يقرّب بين البشر ويرفعهم إلى مستويات روحيّة وفكريّة ووجدانيّة عُلْيَا من خلال التبادل البنّاء.

[1] هذا المقال من الإصدار الثاني لـ "المعنى الصحيح لإنجيل المسيح" ©2016 مؤسسة الكلمة. ويتقيّد هذا المقال بهذه الرخصة: مؤسسة المشاع الإبداعي، نَسْبُ الـمُصنَّف، غير تجاري، منع الاشتقاق 4.0 دولي. توجد الرخصة الكاملة هنا:
https://creativecommons.org/licenses/by-nc-nd/4.0/legalcode.ar
[2] عجك، بسّام داود، الحوار الإسلامي المسيحي: المبادئ – التاريخ – الموضوعات – الأهداف، دار قتيبة، (مكان الإصدار مجهول)، 1998، ص 338.

التّحريف" في مفهوم مف ّسري القرآن الكريم"

يَرِد فعل "حرّف" أو أحد مشتقّاته أربع مرّات في ثلاث آيات من نصّ القرآن. بالإضافة إلى تلك الآيات الصّ ريحة، نجد أيضًا آيتَين إضافيّتَيْن، إحداهما تتّهم من "يكتبون الكتاب بأيديهم"، والأخرى من "يلوون ألسنتَهم بالكتاب". وسنورِ د تلك الآيات، وننظر أوّلا في كتابات أهمّ مفسّ ري القرآن الكريم من المسلمين، الكلاسيكيّة منها، كتفاسير الطّ بري والرّ ازي والجلالين والزّ مخشري والطبرسي والطوسي والفيض الكاشاني، والحديثة منها، كتفاسير رشيد رضا وس يّد قطب وال تّفسير الوسيط الذي أصدره بعض علماء الأزهر، والتفسير الكاشف لمحمد جواد مغنيّة، وتفسير روح البيان للبروسوي، دون إغفال تّفاسير أخرى مختلفة.

في الآية الأولى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ

يفهم المفسّرون المسلمون فعل "حرّ ف" في هذه الآية بمعنى: تغيير الكلمة عن معناها، أي تأويلها على الخطأ عمدًا بعد فهمها على وجهها الصّ حيح. ويتّفق أكثرهم على أنّ الآية تشير إلى اليهود الذين تأوّلوا كلام لله على غير تأويله الصّ حيح، بعد أن فهموه على وجهه الصّ حيح. ويشير المفسّرون إلى واقعتَيْن تاريخيّتَيْن متوازيتَيْن قام فيهما اليهود بهذا العمل المكروه، أولاهما عندما استلم قادة اليهود كلام لله من موسى، وثانيتهما عندما سمعوا كلام لله من نبيّ الإسلام على عهده. فيُذكَر في الحالتيْن أنّ فئة من اليهود أساءت إلى كلام لله الذي سمعته عندما أساءت تفسيره فحرّفت تطبيقه. وتشير هذه الآية إلى يهود المدينة على عهد النبيّ ، وإلى أنّهم اتّبعوا نفس أسلوب اليهود على عهد موسى. وتفسير عبارة "من بعد ما عقلوه" هو أنّ اليهود أضلّوا الشعب لا عن سهوٍ، بل "مِن بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم ولم يبق لهم شبهة في صحّته". فالإعلان بالوحي جاء إعلانًا حسنًا، ومن ثمّ ، تمّ ال تّحريف في تأويله عمدًا. ويشير المفسّ رون إلى أنّ ذلك ال تّحريف لم يتمّ في كلام لله نفسه، بل فيما أضافه بعض هؤلاء اليهود على الكلام الذي سمعوه عن لله فيما بعد. ويمكن أن يتلخّص فهم المفسّرين المسلمين لهذه الآية بما يلي: "أنّ مجموعة من بني إسرائيل حين عادوا من جبل الطّ ور قالوا: سمعنا أنّ لله قال لموسى: اعملوا بأوامري قدر استطاعتكم، واتركوها متى تعذ ر عليكم العمل بها". ففي كلّ ال تّفاسير التي تصفّحناها، لم يفهم المفسّرون كلمة "تحريف" في هذه الآية الأولى بمعنى "تبديل الكلام"، بل بمعنى تضليلِ مَ نْ سَ مِ ع ه من خلال سوء وضعه في سياقه وفساد تأويله.

في الآية الثانية: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهَِ وَنَسُوا حَظا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُ مْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ َّ لله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

يربط العديد من المفسّرين للقرآن مسألة ال تّحريف في هذه الآية بقساوة قلوب اليهود. فقد قست قلوب اليهود نتيجة إبعاد لله إيّاهم عن رحمته تعالى، عقوبة لهم على "نقضهم ميثاقهم"، وهذا الإبعادهو ما يفسّ ر، حسب المفسّرين، عبارة "لعنّاهم".ويستخرج البعض معنى التحريف في هذه الآيةمن عبارة "ونسوا حظا". ويشير المفسّرون إلى أنّ ال نّسيان يأتي نتيجة المعصية. فاليهود، بسبب عصيانهم، قست قلوبهم فسقطت أشياء عديدة من التوراة عن حفظهم. ف يُفهم "ال تّحريف"، في هذه الآية، بمعنى ضُ عف قدرة اليهود العصاة على حفظ التوراة، فيتركونها ويكتمون منها صفات محمّد، لا بمعنى التبديل أو التغيير في النصّ . ويفسّر البعضُ الآخَر من المفسّ رين "ال تّحريف" هنا بأنّه كتم اليهود لذكر محمّد في توراتهم بمعنى التبديل، ممّا يقترب من مفهوم ال تّحريف ال لّفظي.